«كش... ملك». هذه هي قواعد اللعبة في شارع بلس الذي لا يملّ من تغيير معالمه. إلا أن للتغيير ضريبة تظلّ باهظة على «السكان القدامى»، رغم اعترافهم بأنه «سنّة الحياة»، كما يقول أبو ناجي، مدير أقدم سوبرماركت في الشارع. على عكس الكثير من جيرانه الذين رُحّلوا، هو لن يذهب بعيداً، فقد هُجّر فقط لمسافة بضعة أمتار، كانت كافية لإشعاره بالغربة
رنا حايك
«انتقل محل أبو ناجي». تصوّر طالبة من الجامعة الأميركية اللافتة المعلقة على محلّ مختوم بالشمع الأحمر وبأختام رسمية: «لا يجوز فضّها تحت طائلة الملاحقة الجزائية»، لترسلها إلى متخرّجين يعيشون في الخارج. فلكلّ من طلاب الأميركية ذكرياته مع هذه البقعة الصغيرة من الشارع التي تشكّل الطبقة السفلية من مبنى سيهدَم قريباً، كما شرح كيو الشامي، من مكتب مالك العقار، رجل الأعمال، تحسين خياط. «كان الإيجار قديماً، حاولنا رفعه منذ سنوات حين اشترينا المبنى لكن المستأجر رفض، فرفعنا دعوى، وحكمت المحكمة لمصلحتنا. أخيراً، قرّرنا هدمه لأننا نملك عقارات أخرى وراءه تشكّل مساحة شاسعة إذا ما جمعت معه. هكذا، نستطيع خلال السنة المقبلة بناء مجمّع من طبقتين فيه محال ومطاعم وممرّ ستُصمَّم جميعها بما يتماشى مع روحية المكان، فتكون بمثابة قرية صغيرة تنشّط الدورة الاقتصادية في المنطقة ويستفيد منها الطلاب أيضاً»، يشرح الشامي. قد يكون التغيير حتمياً، وهو يلحق بكل معالم المدينة، لكن، في بلس، له وقع آخر. ففي ذلك الشريان الحيوي للمدينة، ثمة رونق خاص لعلاقات «السكان القدامى» مع المكان الذي يحتضنهم ومع طلاب الجامعة الأميركية.
فالشارع الذي تمدّه الجامعة الأميركية بحركة تجارية لا تهدأ، وبتراث ثقافي، تتهاوى معالمه الحميمة كقطع «الليغو» أمام الوتيرة المتسارعة لدينامية التجديد. تجديد تضيع معه علاقات الأفراد بأمكنة سكنوها وسكنتهم، وبأفراد آخرين. بعضهم يرحَّل إلى غير رجعة، كفاديا جحا، التي حملت عام 2007 إرثاً عمره 60 عاماً لـ«مكتبة راس بيروت» ورحلت. المكتبات تتقلّص أمام مدّ المطاعم والمصارف والمحال. أما البعض الآخر، فينجو بالاحتيال على عجلة التغيير ويجد له «مربط عنزة» في بلس، ليبدأ من جديد. وبعيداً عن المجاز، يبدأ أبو ناجي (محمود المير)، الستيني، فعلاً من جديد، لأنه، بعدما أدار لمدة 32 عاماً محل أبناء عمّه، انتقل اليوم إلى إدارة محلّه الخاص. لن يلفظ شارع بلس أبو ناجي، فهو، لم ينتقل أمتاراً فحسب، بل إنه لا يزال أيضاً يدير محلي أبناء عمه «الأفران الوطنية» و«le sage». لا أحد من متخرّجي الجامعة الأميركية، منذ عام 1978 حتى اليوم، لا يعرف أبو ناجي. بابتسامته السّمحة، واحتضانه للطلاب الذين يسمّيهم «أبنائي»، بنى هذا الرجل طوال سنوات عمله في سوبرماركت «Epi d’or» المواجه تماماً للبوابة الرئيسية في الجامعة الأميركية، سمعة طيبة مع محيطه. «كان المحل كبيت بالنسبة إلى الطلاب. وكنت كأب لهم لا كتاجر. يشكون لي همومهم، يأتي أهاليهم في بعض الحالات للتعرّف إليّ، أسلّف الأجانب منهم المال إذا ما تأخّرت حوالات الأهل. باختصار، كل زبون يدخل إلى محلي يخرج صديقاً»، يقول، ذاكراً كيف لم يهن عليه مشاهدة أحد أحبائه من الطلاب ذات ليلة، وهو في حالة سكر شديد أفقدته احترامه، فأجرى معه حديث والد مع ابنه في الصباح التالي، أو كيف اصطحب طالبة أردنية ذات مرة إلى منطقة الدورة، التي كانت تجهل كيف تصل إليها وحيدة، لتشتري الهدايا لعائلتها. ولا ينسى أبو ناجي إيفاء أم ناجي حقّها. فهي كانت تعدّ أطيب سندويشات «بطاطا حرة» للطلاب المحرومين من الأكل البيتي.
«يضربون المواعيد لبعضهم البعض هنا، وهنا يتركون الأغراض لبعضهم البعض. يأتون كل صباح، يشترون القهوة ليحتسوها على درج الجامعة. أما بعد التخرج، فكلهم يعودون»، يقول أبو ناجي الذي أكثر ما يفرحه هو رؤية «متخرّج ومتخرّجة تزوجا، يصطحبان أبناءهما ويأتيان ليعرّفاني إليهم». غضب الطلاب كثيراً لخبر إغلاق المحل ولو أنه سينتقل إلى عدة أمتار فقط. «اقترحوا عليّ أن يقطعوا الطريق وأن يعتصموا، لكنني لم أرضَ، لا أريد لهم أن يتأذوا. فأنا مقهور، والمحل كان قطعة مني، مبارح هربت هني وعم بيحطوا الشمع الأحمر لأني ما كنت قادر شوف المشهد. لكن هاي الدنيا، ما فينا نعمل شي».
ولكن، يبدو أن غضب الطلاب يتجاوز قضية أبو ناجي الذي يعتبرونه «رمزاً بالنسبة إلينا وإلى جميع المتخرّجين من قبلنا. له موقع مميز في قلوبنا ونعامله كأب وليس كتاجر، لأنه، على الأقل، وبغض النظر عن طيبته ومحبته لنا، لم يكن يوماً من النوع الاستغلالي، ليفكّر مثلاً في رفع أسعار محتويات دكانه، مستغلاً عدم وجود دكان آخر في الشارع»، كما يقول الطالب علي نور الدين. فهاجسهم يكمن في التحوّل الذي سيطرأ على طلاب جامعتهم وتمليه «ثقافة المول، الذي يشاع أبنه سيُفتتح بعد هدم المبنى، بعد أن تستبدل ثقافة الدكان مع كل ما يستتبعه ذلك من فارق اجتماعي وثقافي، وخصوصاً مع حظر التدخين في الجامعة. أكيد سينتقل الطلاب إلى ثقافة استهلاك أوسع في مقاهي المول الجديد»، كما يضيف نور الدين.
لزملاء أبو ناجي في المحل حزنهم أيضاً. زهير عمار، الذي يعمل معه منذ 23 عاماً يأسف على المحل القديم الذي «تجمعني بجدرانه وكراسيه علاقة خاصة». أما الطلاب، فـ«إخوة وأصدقاء. يتصل المغتربون بي من الخارج للاطمئنان علينا. كنا نعاملن كإخوة. اللي بطنوا عم توجعه نعملّو زهورات، اللي راسه عم يوجعو نعطيه بانادول». أما كريم خير الله، فيقف في «le sage»، المحاذي للمحل القديم، الذي ينتظر حسم مصيره هو الآخر لكونه تابعاً للعقار المنوي هدمه. «مسألة أيام» يقول، معلقاً «المالك عنده عشرات الأبنية بهالشارعين، وبعد ما عمّر قبل بكم متر bliss 3000 جايي دورنا. الله يشبّعه!»
قد يجد الطلاب في المول، إذا ما افتُتِح، محلاً لبيع الأجهزة الإلكترونية، ولكن، قد لا يجدون فيه «فيش أميركاني» لا بد منه لوصل حواسيبهم بالكهرباء في مكتبة الجامعة، لأن تاجر الجملة قد لا يكترث لتأمين تفاصيل لا تخطر على بال، يطلبها الطلاب، كما يفعل أبو ناجي الذي كان يملأ محله بالسلع وفقاً لمتطلبات أحبائه.
66 عاماً هي عمر أبو ناجي. إلى جانب وظيفة دامت 23 عاماً في الأمن الداخلي، أدار الرجل الدكان الوحيد في بلس ونجح في أن يصبح معلماً من معالم الشارع. لم يتعب بعد. هي سمة جينية. فوالده ظل يعمل حتى سن متأخرة، رافضاً دعوة أحد أبنائه الميسورين إلى ترك العمل لأن دعوته بدت له «كإنك عم بتقلّي انتهيت». أبو ناجي يعد بالمثل.
[via]
Comments
Post a Comment